في رياضة تتميز بالقوة والمهارة، برزت أسماء خالدة في تاريخ سباقات الدراجات النارية، لكن قلة منهم تمكنوا من أن يخلّدوا أنفسهم كأساطير. من بين هؤلاء، يبرز اسم لا يُنسى ولا يتكرر، هو جياكومو أغوستيني Giacomo Agostini ، الدراج الإيطالي الذي أصبح الرقم الصعب والمرجع الذي تُقاس عليه كل الإنجازات في عالم الجائزة الكبرى للدراجات النارية Grand Prix Motorcycle Racing.
ولد أغوستيني في 16 يونيو 1942 في بلدة بريشيا Brescia الواقعة في شمال إيطاليا، في قلب مقاطعة لومبارديا الشهيرة. ومنذ سنوات شبابه الأولى، أظهر ولعًا كبيراً بالسرعة والدراجات، وهو ما قاده في أوائل الستينيات إلى دخول عالم السباقات، ليمهد بذلك لمسيرة مدهشة استمرت أكثر من 15 عامًا، حصد خلالها أعلى درجات المجد بسباقات الدراجات، ودوّن اسمه بأحرف من ذهب في صفحات التاريخ الرياضي الإيطالي والعالمي.
مسيرة تتجاوز حدود المنطق ..15 لقبًا عالميًا و122 فوزًا
عندما نتحدث عن الأرقام القياسية في سباقات الدراجات النارية، لا يمكن إلا أن يبدأ الحديث باسم جياكومو أغوستيني، الذي لا يزال حتى اليوم، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود على اعتزاله، متصدرًا قائمة أكثر المتسابقين فوزًا في تاريخ بطولات الجائزة الكبرى للدراجات النارية. فقد حقق أغوستيني 15 لقبًا عالميًا، منها 8 ألقاب في الفئة الأقوى 500cc، و7 ألقاب في فئة 350cc. وهذا الإنجاز يُعد الأعلى على الإطلاق في تاريخ رياضة الدراجات النارية الخاضعة لتنظيم الاتحاد الدولي للدراجات النارية FIM.
أما عدد مرات فوزه في السباقات الكبرى Grands Prix، فقد بلغ 122 فوزًا رسميًا، وهو رقم لم يتمكن أي درّاج لاحق من كسره حتى اليوم، بما في ذلك أسماء في العصر الحديث مثل فالنتينو روسي Valentino Rossi أو مارك ماركيز Marc Márquez، رغم اقترابهم من بعض أرقامه، إلا أنهم لم يبلغوا قمته.
بدأ أغوستيني مسيرته العالمية في عام 1964، حين انضم إلى الفريق الإيطالي الشهير MV Agusta، ليبدأ معه مرحلة أسطورية استمرت قرابة عقد من الزمن، أصبح خلالها بطلاً مطلقًا في فئتي 500cc و350cc، ولم يُهزم تقريبًا إلا بفعل أعطال ميكانيكية أو حوادث نادرة.
الهيمنة على حلبة “جزيرة مان TT”
يُعد أغوستيني أحد أعظم من خاضوا سباقات جزيرة مان TT، وهي واحدة من أخطر السباقات في تاريخ رياضة المحركات، لما تتضمنه من طرق ضيقة وجبال ومنعطفات حادة، تُقام على طرق عامة مغلقة بدلًا من الحلبات المجهزة. تمكن أغوستيني من الفوز بـ 10 مرات في هذا التحدي، ما بين عامي 1965 و1972.
لكنه اتخذ قرارًا شجاعًا في عام 1972 بالانسحاب نهائيًا من هذه الحلبة، احتجاجًا على ضعف معايير السلامة، بعد أن شهدت تلك السنوات عددًا من الوفيات بين السائقين. وقد صرّح وقتها قائلًا: “أنا أستطيع الفوز ..لكن لا أستطيع أن أضع حياتي على المحك في ظروف غير آمنة. السباق يجب أن يكون معركة ضد الزمن… لا معركة من أجل البقاء”.
وكان لموقفه هذا تأثير مباشر في تسريع تحول الاتحاد الدولي نحو تنظيم السباقات على حلبات مخصصة فقط، وهو تحول استمر لسنوات لاحقة، وكان أغوستيني أحد أهم محرّكيه.
مغامرته مع ياماها Yamaha وتاريخ جديد في اليابان
في عام 1974، قرر أغوستيني مغادرة MV Agusta والانضمام إلى الفريق الياباني ياماها Yamaha، في خطوة مثيرة للجدل وقتها، أثبت للعالم أن موهبته استثنائية و فاز بلقب بطولة العالم للفئة 500cc عام 1975 مع ياماها، ليصبح أول دراج يفوز ببطولة العالم على متن دراجة يابانية.
هذا الانتصار لم يكن مجرد فوز رياضي، بل كان نقلة تاريخية لصناعة الدراجات النارية في اليابان، التي سرعان ما بدأت في الهيمنة على الأسواق العالمية، وأثبتت أن التكنولوجيا اليابانية قادرة على التفوق حتى في أعلى مستويات الرياضة التنافسية.
ما بعد السباقات ..مدرب، إداري، ووجهٌ دائم في paddock
بعد اعتزاله السباقات رسميًا في عام 1977، لم يبتعد أغوستيني عن عالم السرعة. فقد عاد كمدير لفريق ياماها Yamaha، ثم انضم لاحقًا إلى فريق هوندا Honda في أدوار فنية وإدارية. واستمر على مدى سنوات في دعم المواهب الشابة، مستثمرًا تجربته لتوجيه الأجيال الجديدة من المتسابقين.
كما أصبح وجهًا دائمًا في paddock السباقات الدولية، وشارك في عدد من الفعاليات الرسمية والتكريمية، وتم منحه العديد من الأوسمة، منها وسام الاستحقاق للجمهورية الإيطالية، وتم إدراج اسمه في قاعة مشاهير رياضة المحركات، وغيرها من الجوائز.
الآفضل في التاريخ
رغم التطور التكنولوجي، وتغيّر قواعد السباقات، وظهور عشرات النجوم في عالم MotoGP، لا يزال إرث جياكومو أغوستيني صامدًا في وجه الزمن. إن أرقامه التي لم تُكسر حتى اليوم، ونجاحاته المتتالية، والمستوى الذي فرضه على منافسيه، كل ذلك جعله ليس فقط أفضل درّاج في عصره، بل الأفضل في تاريخ هذه الرياضة حتى الآن.