هيونداي عملاق الصناعة الكورية .. بدأت بسرقة بقرة – ما القصة؟
عندما ننظر اليوم إلى السيارات التي تحمل شعار هيونداي Hyundai وهي تجوب شوارع العالم، قد يصعب علينا تخيّل أن هذه الإمبراطورية الصناعية بدأت من حياة قاسية لطفل ريفي فقير، اضطر إلى سرقة بقرة عائلته ليهرب إلى المدينة. لكن القصة الحقيقية لتأسيس هيونداي أعقد بكثير من مجرد نجاح تجاري؛ إنها حكاية عن الإصرار والجرأة والقرارات المستحيلة، بطلها رجل اسمه تشونغ جو يونغ Chung Ju-yung، الذي وُصف لاحقاً بأنه الرجل الذي بنى كوريا الجنوبية الحديثة.

الطفولة ..جوع وفقر وعناد
وُلد تشونغ جو يونغ عام 1915 في قرية زراعية فقيرة في محافظة كانغوون الواقعة شمال كوريا. كانت عائلته تعيش على سد احتياجاتهم بالكاد، تعمل من الفجر إلى الليل في زراعة الأرز والشعير، وتعتمد على حصاد محدود لا يكفي لإطعام أطفالها. ومنذ طفولته المبكرة، عرف تشونغ أن الحياة التي يعيشها ليست الحياة التي يريد أن يظل فيها.
كان الابن الأكبر، لذلك وقع عليه العبء الأكبر من الأعمال المنزلية والزراعية. ومع كل يوم يقضيه في الحقول، كانت تزداد لديه قناعة بأنه لا يريد أن يقضي عمره محصوراً في أرض لا تنتج سوى الفقر. كانت أحلامه أكبر من القرية، وأكبر من أرض العائلة، وأكبر من حدود كوريا نفسها.
لكن في تلك البيئة الفقيرة، لم يكن الهروب مجرد قرار؛ كان مخاطرة بكل ما يملك.
المحاولات الأولى للهروب
في منتصف مراهقته، قرر تشونغ الهروب إلى مدينة تشونغجين أملاً في إيجاد عمل يوفر له دخلاً بسيطاً. كان يجهل الطريق وغير مستعد لأي شيء، لكنه كان مقتنعاً بأنه يجب أن يتحرك نحو الأفضل. سار لمسافات طويلة، ووصل بالفعل إلى المدينة، وبدأ يعمل في وظائف بسيطة. لكن فرحته لم تدم طويلاً، إذ وصل والده إلى مكان عمله بعد أسابيع، وأخذه بالقوة إلى المنزل.
لم يستسلم، فهرب مرة أخرى، وهذه المرة إلى بلدة مختلفة. لكنه كان يعود دائماً إما بسبب نفاد المال أو القبض عليه أو فشله في إيجاد عمل ثابت. تكررت محاولاته ثلاث مرات، وفي كل مرة كان يعود إلى البيت وهو يفكر في الطريقة التالية للخروج من هذا الواقع.
كانت تلك المحاولات، رغم فشلها، تنحت في داخله شيئاً فشيئاً روحاً أكثر اصرارًا وتحدى.

سرقة البقرة ..القرار الذي غيّر حياة أسرة وغيّر تاريخ دولة
تعدّ حادثة سرقة البقرة أشهر وأكثر الأحداث تأثيراً في حياة تشونغ. كانت عائلته تملك بقرة واحدة فقط، وكانت تلك البقرة بمثابة الاستثمار الوحيد للعائلة ومصدر رزقها الرئيسي. وكان بيعها يعني خسارة كبيرة لهم.
لكن تشونغ، الذي كان يرى أن المستقبل في المدينة وليس في الريف، اتخذ قراراً غير متوقع وصادماً. في أحد الأيام، اقتاد البقرة من الحظيرة، وسار بها إلى السوق، وباعها دون علم والده. حصل على مبلغ كان كبيراً بالنسبة لشاب في عمره، واستغلّه في الهرب إلى سيول.
كانت تلك الحادثة نقطة تحول كبرى في حياته. فقد شعر بالذنب طوال عمره تجاه والده، لكنه كان يدرك أيضاً أن هذا القرار كان بوابة الخروج من الفقر، وهو القرار الذي أدى به في نهاية المطاف إلى تأسيس إمبراطورية صناعية أصبحت رمزاً للنمو الكوري.
في سيول، لم يكن يعرف أحداً، ولم يكن لديه مكان يبيت فيه، لكنه امتلك الإصرار على أن يصنع حياة جديدة.
العمل في سيول ..رحلة شاقة بين المتاجر والورش
بعد وصوله إلى العاصمة، بدأ تشونغ يعمل في أي وظيفة يجدها. عمل حمالاً ينقل البضائع من الأسواق إلى المتاجر، ثم عمل في مخزن أرز، ثم عامل تنظيف في مطعم. كانت تلك الأعمال شاقة وصعبة، لكنها منحته الخبرة الأولى في التعامل مع الناس، وفهم الحركة التجارية داخل المدينة، وتعلّم كيف تُدار المشاريع الصغيرة.
ثم جاءت الفرصة التي غيرت حياته، العمل في ورشة صغيرة لتصليح السيارات. وهنا بدأ يكتشف شغفه الحقيقي. فقد انبهر بالآلات، وبطريقة عمل السيارات، وبالمهارات اللازمة لإصلاحها. كان يبقى وقتاً أطول من ساعات عمله الرسمية فقط ليتعلم من الميكانيكيين الأكبر منه. ومع الوقت أصبح أكثر مهارة، وأكثر ثقة.
تجربة متجر الأرز ..أول درس في التجارة
بعد سنوات، استطاع تشونغ ادخار جزء من أجره وافتتح أول مشروع خاص له، متجر صغير لبيع الأرز. كان يعمل من الفجر إلى منتصف الليل، مما جعله مشهوراً في الحي. لكن الاحتلال الياباني وتذبذب الأسعار أديا إلى انهيار المشروع تماماً، وخسر كل مدخراته.
لم يستسلم، بل قال مقولته الشهيرة: “إذا فقدت المال، يمكنك إعادة كسبه. لكن إذا فقدت الثقة بالنفس، فلن تكسب شيئاً أبداً”.

ولادة هيونداي ..بداية من ورشة صغيرة عام 1946
بعد انتهاء الاحتلال الياباني، قرر تشونغ، الذي أصبح أكثر خبرة ونضوجاً، افتتاح ورشة صغيرة لإصلاح السيارات في سيول عام 1946 تحت اسم هيونداي لخدمات السيارات. اختار اسم هيونداي الذي يعني الحداثة أو العصر الجديد، ليعكس رؤيته لمستقبل صناعي حديث.
كانت الورشة بسيطة، لكن حجم العمل الذي قدمه فيها كان كبيراً. فقد اكتسب ثقة العملاء بسرعة، وأصبح معروفاً بالالتزام والدقة والسرعة، وهي صفات ستصبح لاحقاً جزءاً من هوية هيونداي.
خطوة نحو البناء ..تأسيس هيونداي للهندسة والإنشاءات عام 1947
بعد نجاح ورشة السيارات، اتجه تشونغ إلى قطاع الإنشاءات، فأسس شركة هيونداي للهندسة والإنشاءات، التي أصبحت جزءاً أساسياً من مشاريع إعادة إعمار كوريا بعد الحرب الكورية.
وقد حصلت الشركة على عقود كبرى بفضل قدرة تشونغ على إنجاز الأعمال الصعبة التي كانت شركات أخرى ترفضها، الأمر الذي جعله يكسب ثقة الحكومة، ويفتح له الباب للتوسع في مشاريع ضخمة داخل وخارج كوريا.
ولادة هيونداي موتور عام 1967 ..الحلم يصبح صناعة وطنية

في عام 1967 أسس تشونغ شركة هيونداي موتور Hyundai Motor Company. كانت رؤيته واضحة: “كوريا الجنوبية يجب أن تصنع سياراتها بنفسها، لا أن تكتفي باستيراد سيارات أجنبية”.
بدأت الشركة في البداية بتجميع سيارات فورد Cortina، لكن تشونغ لم يرد أن يبقى تابعاً لصناعة أجنبية. أراد سيارة كورية بالكامل.
وفي عام 1975، قدمت الشركة أول سيارة كورية بالكامل وهي هيونداي بوني Hyundai Pony، والتي صممها جورجيتو جيوجيارو Giorgetto Giugiaro. كانت بوني نقطة التحول التي أوصلت كوريا إلى الأسواق العالمية.
القفزة العالمية ..استثمارات ضخمة ومراكز بحث في كل القارات

مع مرور السنوات، توسعت هيونداي لتصبح مجموعة عالمية ضخمة. وتشمل استثماراتها ومراكزها اليوم مصانع إنتاج في كوريا والصين والهند والبرازيل وأمريكا الشمالية وأوروبا الشرقية، بالإضافة إلى مراكز بحث وتطوير في ألمانيا والولايات المتحدة وكوريا، كذلك استثمارات في البطاريات والتقنيات الكهربائية والذكاء الاصطناعي والتصميم المستقبلي.
وصلت الشركة إلى حجم إنتاج يفوق سبعة ملايين سيارة سنوياً شاملة كيا، وأصبحت من أكبر خمس شركات سيارات في العالم من حيث الإنتاج.
قصة السيطرة على كيا ..من الإفلاس إلى التحالف العملاق
في أواخر التسعينيات، كانت شركة كيا موتورز Kia تمر بأزمة مالية خانقة بسبب الأزمة الاقتصادية الآسيوية عام 1997. سعت الحكومة الكورية إلى إنقاذ الشركة لأنها كانت جزءاً مهماً من الاقتصاد الكوري. وهنا دخلت هيونداي على الخط.
في عام 1998، اشترت هيونداي حصة مسيطرة في كيا، وبدأت عملية إنقاذ شاملة. لم تكن الصفقة مجرد استحواذ، بل كانت نقطة تحول لقطاع السيارات الكوري، إذ دمجت المجموعة بين خبرة هيونداي الصناعية وشعبية كيا في الأسواق العالمية. أصبح التحالف بينهما القوة المحركة التي جعلت كوريا خامس أكبر مصنّع للسيارات في العالم.








