في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت أوروبا تشهد ثورة صناعية أعادت رسم ملامح وسائل النقل، وفي قلب هذه التحولات، برزت قصة نجاح انطلقت من مدينة ملادا بوليسلاف Mladá Boleslav التشيكية، حيث اجتمع الشغف، والإبداع، في مشروع صغير تحوّل خلال عقود إلى واحد من أعمدة صناعة السيارات عالميًا. إنها قصة Laurin & Klement التي أصبحت لاحقًا العملاق التشيكي سكودا ŠKODA.
البداية.. حلم بدأ من ورشة متواضعة
على عكس الشركات الناشئة اليوم التي غالبًا ما تبدأ من مرآب بسيط، لم يكن هناك مرائب في ملادا بوليسلاف قبل عيد الميلاد لعام 1895. ومع ذلك، فقام كل من فاكلاف لورين Václav Laurin و فاكلاف كليمنت Václav Klement بتأسيس شركتهما على أطراف المدينة التشيكية، حيث شغفهما المشترك بالميكانيكا والتنقل قادهما لتأسيس ورشة صغيرة لصناعة الدراجات الهوائية.
لم تكن البداية سهلة؛ فعدد العمال الأوائل لم يتجاوز شخصين ومتدرب، ولكن خلال عام واحد فقط، ارتفع عدد العاملين إلى 21 موظفًا، وتم تزويد الورشة بآلة تشغيل تعمل بمحرك بخاري بقوة حصانين. هكذا وُلدت دراجات سلافيا Slavia الشهيرة، تحمل شعار غصني زيتون، ومع الوقت، استُبدلت المكونات الإنجليزية تدريجيًا بأخرى تشيكية بالكامل، لتصبح علامة L&K.
صدمة شخصية صنعت بداية النجاح
الشرارة الأولى لهذا المشروع جاءت من موقف شخصي، حين اشترى فاكلاف كليمنت، بائع الكتب في الأصل، دراجة من شركة ألمانية، وحين تعطلت، رفض المصنع إصلاحها بسبب ضعف إجادته للغة الألمانية، ليقرر وقتها تأسيس شركة تشيكية تصنع دراجات تضاهي أعلى معايير الجودة الأوروبية، بالشراكة مع المهندس فاكلاف لورين.
من الدراجات إلى الدراجات النارية
لم يقتصر طموح Laurin & Klement على الدراجات الهوائية، ففي عام 1896، زار فاكلاف كليمنت باريس، العاصمة العالمية للسيارات وقتها، وعاد منها بنموذج بدائي لما أُطلق عليه لاحقًا “الموتوسيكل”. لم يكن النموذج مثالياً، فالمحرك كان مثبتًا فوق العجلة الأمامية، ونتيجة لذلك تعرّض لورين لحادث أسفر عن كسر أسنانه الأمامية خلال إحدى التجارب. لكن هذه التجارب الصعبة، وُلدت فكرة الدراجة النارية الحديثة.
وفي عام 1899، قدّمت L&K أول دراجاتها النارية رسمياً، ما شكّل نقلة نوعية في التنقل الشخصي، وسرعان ما أصبحت منتجاتها تُصدّر إلى أكثر الأسواق الأوروبية تطلبًا، مستفيدة من سمعتها في دقة الصناعة وجودة المواد، إلى جانب نظام التقسيط العادل الذي كانت تشرف عليه لجنة مستقلة من الشخصيات البارزة بالمدينة.
التوسع والابتكار ..خطوات متسارعة نحو العالمية
بحلول عام 1900، بدأ لورين وكليمنت في تجربة أولى نماذجهم الرباعية العجلات، والتي جذبت أنظار سكان براغ رغم بدائيتها، حيث استخدمت قطعًا من الدراجات النارية ومقود دراجة بدلاً من عجلة القيادة، فيما جلس السائق خلف الراكب.
وفي 1 يوليو 1900، لفتت مركبة “الكوادريسايكل” الأنظار خلال عرض في شوارع براغ، لتكون بداية حلم دخول عالم السيارات.
بعدها بخمس سنوات، كشفت Laurin & Klement عن أول سيارة رسمية تحمل اسمها، L&K Voiturette A، بمواصفات متقدمة وقتها، وقدرة محرك مميزة، ما رسّخ اسم الشركة في سوق السيارات الأوروبي سريع النمو.
السباقات بوابة النجاح العالمي
لم تتأخر الشركة في دخول عالم السباقات، حيث شاركت عام 1901 في سباق باريس-برلين الشهير، لتبدأ مسيرة حافلة بالبطولات، فخلال موسم 1904 وحده، حصدت دراجات L&K النارية 56 جائزة أولى و59 جائزة ثانية وثالثة في 64 سباقًا، وهو رقم قياسي عزز شهرتها عالميًا، ما دفع مصنع Seidel & Naumann الألماني إلى شراء ترخيص إنتاج دراجات “سلافيا”، التي أعيد تسويقها لاحقًا باسم جيرمانياGermania.
وفي مارس 1904، قدمت L&K واحدة من أوائل الدراجات النارية رباعية الأسطوانات في العالم، بطاقة 735 سم مكعب.
التحول إلى السيارات
بحلول عام 1905، أعلنت Laurin & Klement رسميًا وقف إنتاج الدراجات الهوائية، للتركيز بالكامل على السيارات، مع توسع المصنع ليشمل مساحة 9,500 متر مربع، يضم 206 آلة تشغيل حديثة و355 موظفًا.
في المعرض الدولي للسيارات ببراغ، كشفت الشركة عن محركها ثنائي الأسطوانات المخصص للسيارات الجديدة، وفي أكتوبر من نفس العام، ظهرت أول صورة لسيارة Laurin & Klement Voiturette A في الصحافة النمساوية.
لم تكتف الشركة بالمحلية، بل وسعت نشاطها عالميًا، لتصبح أكبر صانع للسيارات في الإمبراطورية النمساوية المجرية قبل الحرب العالمية الأولى، مع شبكة توزيع تصل إلى كل القارات المأهولة، وخدمة عملاء تشمل الأوروبيين، والرسميين المكسيكيين، وملوك مصر، وأعضاء من العائلة الإمبراطورية اليابانية.
اندماج L&K مع سكودا
مع تصاعد التنافس في سوق السيارات، جاء عام 1925 ليحمل تحولًا محوريًا، حيث اندمجت Laurin & Klement مع مجموعة سكودا ŠKODA الصناعية، ما منح الشركة موارد هائلة في مجالات التصنيع والبحث والتطوير، وفتح الباب أمام عصر جديد من الابتكار.
تحت راية سكودا، واصلت الشركة إنتاج سيارات موثوقة جمعت بين الهندسة الأوروبية المتقنة والأسعار التنافسية، ما مكّنها من الوصول إلى أكثر من 100 سوق عالمي اليوم، بإنتاج سنوي يتجاوز مليون سيارة، ضمن مجموعة فولكس فاجن Volkswagen Group العملاقة.
125 عامًا من العلاقة الوثيقة مع الموظفين
لم يكن نجاح L&K قائمًا على الابتكار وحده، بل على علاقة متوازنة مع الموظفين، فمنذ عام 1898، وضعت الشركة أول لائحة تنظيمية للعمل تضمنت 11 بندًا تُنظم العلاقة بين الإدارة والعمال، شملت المرونة في تأدية المهام، ونظام مراقبة الحضور، والتأمين ضد المرض والحوادث، مقابل التزام العمال بالولاء للشركة.
ميراث L&K حاضر في سيارات سكودا الفاخرة
رغم مرور أكثر من قرن، ما تزال سكودا تكرم إرث مؤسسيها عبر إصدار Laurin & Klement الفاخر المتوفر في طرازات مثل سكودا سوبرب ŠKODA Superb وسكودا كودياك ŠKODA Kodiaq، ليبقى اسم لورين وكليمنت رمزًا للجودة والابتكار منذ عام 1895.
سكودا اليوم
اليوم، تقف سكودا كواحدة من أبرز صانعي السيارات عالميًا، تستند إلى تاريخ عريق يمتد لـ 128 عامًا، وتجسّد قصة نجاح حقيقية بدأت من ورشة صغيرة، لتصبح رمزًا للجودة والاعتمادية والتطور التقني في عالم السيارات.
